·
يؤرقني الوقت... تبدو لي الحياة بجميع تفصيلاتها
أمر مؤقت و كأنما أنتظر شيئا ما... أبحث في ذاكرتي عما أنتظر... فلا أجد شيئا سوي
غبار متراكم فوق أشياء مضت...
·
يقتله الوقت شوقا... و خوفا... ينتظر و ينتظر...
تمر اللحظات ثقيلة وئيدة... يتمني لو يستطيع أن يحرك عقاربها بيديه، و لكن، ماذا
تعني ساعات الدنيا؟! إنه الوقت... يكاد يموت خوفا عليها، و شوقا لصغير لم يره بعد،
بل لم يشعر يوما أنه حقا يشتاق إليه إلا عندما أشار بقرب القدوم... تتعاقب الأفكار
علي رأسه، تتنازعه... أيها الوقت، ألا رفقا بي... ألا بربك فَمُر... و لتحمل لي
جميل خبر...
·
يزعجها الوقت، مجرد فكرة مواصلة الحياة تثير
جزعها... تقبع في غرفة قلبها المظلمة وحيدة، و إن امتلأت حياتها أناسا، أو امتلأ
الأفق ضوءا... ماذا عساها أن تفعل بضوء الأفق بدونه؟! لو أن الأمر بيديها، لتخلصت
من عقارب الساعات و ما تخبئه لها من أيام و سنوات متشابهة لا بهجة فيها... الوقت
أمر مراوغ، يبدو لها أنما يمر، و لكن لا شيء يتغير، فهي لا تزال قيد مكانها منذ
رحل... أيها الوقت، بربك، ألم يقولوا أنك تغلب الذاكرة، فلماذا أسقطتني ذاكرتك؟!
·
أيتغافله الوقت، أم أنه لم يعد يكترث لما يحمل
الوقت له... فماذا قد يعني الوقت لعجوز هرم، الوقت بالنسبة له هو انتظار أمر قادم
لا محالة... و برغم ما تنطوي عليه فكرة انتظار النهاية من خوف و ألم، إلا أنه لا
يقوي علي انتزاع نفسه من براثنها... تقوده كل السبل إليها كأنما يُدفع دفعا، حتي
أنه ليراها مستترة في أعين جميع من حوله... ربما صار ترقب النهاية هو مخرجه الوحيد
من ذاك الواقع الممض... أيها الوقت، لا أراك تحمل لي سوي أمرا واحدا، فلماذا لا
تعجل لي به؟!
·
سنوات و هي تصارع الوقت، لا تترك له مجالا،
سنوات و هي لا تدري أصديق هو أم عدو متربص بها... و لكنها علي كل الأحوال لا تدعه
يمضي بسلام... تقاتله و تقاتل دونه، فلا تدع ركنا في زواياه إلا ملأته، أو فراغا
في قلبه إلا سدته... أمور و شئون، بعضها هام، أكثرها بخلاف ذلك، لا يهم كثيرا...
كل ما يهم ألا تدع ساعة من وقتها لتلك الأفكار التي لا تنام...
لم يكن في الحياة جديد حتي لقائها به، بدا الأمر
و كأنما قد اقتطع من الزمن... معه، علي غير عادتها، لم يكن الوقت يعني شيئا... لم
تعد تعبأ سوي بتلك اللحظة الراهنة، و كأنها عابد صوفي يمكث في محراب روحه...
لا تدري، هل مر الوقت حثيثا أم هادئا، و لكنه
مر، و معه أمور كثيرة مرت أيضا... و رغم أن الحياة عادت لما كانت عليه قبلا، و عاد
الوقت ليمسك بزمامها مرة أخري، أو هكذا ظنت، إلا أنها لا تزال لم تستعد زمام
الذاكرة... و يراودها السؤال ذاته، يلح و يتكرر دوما... مالي أطلق لذاكرتي العنان،
فتصول في أرجاء العمر و تجول، ثم لا تأتيني إلا به؟!
·
يستنفذه الوقت، تتخطاه الأحلام و يسحق الزمن في
أعقابه خططه البالية... هل صار الحلم رفاهة؟! و لماذا غدت كل البدائل بمرور الوقت
مفرغة من المحتوي... الحياة لا تكترث لشأنه، لا تعبأ لما يعتريه من تضارب و
تناقض... بدا يوما ذاك الحلم يقترب، يضيء له ككوكب دري، يومض ومضات تُضاء علي
إثرها الحياة بأكملها... بدا يوما الحلم في متناول اليد، فلماذا فر هاربا عندما مد
يده الصغيرة ليمسك به... لماذا أفل كوكبه المتوهج كحماسته بين طرفة عين و
انتباهتها... و ماذا عليه أن يفعل الآن تجاه الحلم... أيطارده في تلك الفضاءات
المترامية، أم ينتظر كوكبا آخر أكثر توهجا؟! هل عليه أن يقبل بواقع يزداد حمقا كل
يوم، أم يخبئ الجنون بعقله و يمضي إلي حيث يمضون... أيها الوقت، بربك، لم لا تدع
لي حلمي، لم لا تمنحني تلك الومضة التي ألتمس علي إثرها الطريق أو تتركني بسلام و
ترحل في صمت...
·
لص مراوغ... ذلك الوقت في حياتها... عبثا قد
تحاول أن تحصي ما سرق، فتجد أنه أجدر بها إحصاء ما ترك... و لكن، هل ترك لها الوقت
شيئا يحصي... ماذا ترك سوي حسرة و ألم و صفر كبير... نعم صفر كبير لا فوقه و لا
تحته... عمرا كاملا تفلت من بين يديها... و أناس عاشرتهم لم تكن لهم سوي شيء
هامشي... تشعر و كأنها عاشت كل ما مضي علي أطراف الحياة... بل تشعر و كأنها لم تكن
لها حياة تذكر... أما الآن، فهي ليست واثقة أن لديها من الوقت ما تصلح فيه
بقايا روح أفسدها الزمن... أيها الوقت، منحت كلي لمن لا يستحق، فهل يمنحني بعضك ما
أستحق؟!
·
تربكني الساعات... لماذا لا تتوقف عن الإلحاح؟!
تتداخل و تتسارع أصواتها، تعلن واحدة عن ضيق ما
بقي من الوقت، فتدفع بي أخري في دوامة جدوي ما قد انقضي، بينما تكبلني ثالثة بأمور
مرتقبة ينتظرها مني آخرون... ساعات... دقات... أدوار... قريبة و بعيدة... صادقة و
مفتعلة... كوكب لا يكف عن الدوران... كيف تحوي تلك الساعات الضيقة الحيز هذا
التغيير في طياتها؟!
أمُرُّ فوق الأرقام و العقارب و التروس مرور
المترقب، و لكنني رغم ما عاينت من تغيير، عندما عقبت بنظرة خاطفة، لم ألحظ أن شيئا
قد تغير!