كانت
ليلة مقمرة عندما اجتزت تلك البوابة الخشبية الضخمة، ذات الرأس القوسي المدبب... دلفت
فناء واسعا تموج و تتلألأ أرضيته الحجرية في فضة القمر السائلة... لمحتها طيفا لم أتبين
تفاصيله، خمار أبيض، و وشاح وردي يخفي ملامحها و إن شف عن بشرة داكنة و عينان تتوهجان
بلمعة لا أخطؤها... تواريت في ركن من الفناء خلف أحد الأعمدة الخشبية المتراصة... بينما
وقفت هي حيري تتلفت في منتصف الفناء، عندما ظهر فارسها الذي زادت رؤيته عينيها سحرا
و اتساعا... طويل أمرد... له وجه أسمر ناحل يحمل قسمات صوفية منمقة و شعر أسود منسدل
إلي ما فوق كتفيه العريضين... له عينان كبحرين أسودين يمتزج فيهما الأفول بالتوهج علي
نحو يصعب معه التنبؤ بمزاجهما... عينان لا تخلوان من حدة أو قسوة تمنعهما من البوح،
و إن وشتا بصاحبهما... حاولت أن أسترق السمع لكلامهما، فلم يجبني سوي صرير الهواء بين
المباني الحجرية االتي احتضنت الفناء... بلا كلمات، ظل حوارهما متصل لا يسأم... تتبعثر
الحروف من عيون خجلي فتنتشر شظاياها في أرجاء الفناء، أتضوعها في الهواء الدائر عبقا
يمتزج فيه العود و البخور و لمحة من ياسمين... أتيه في العطر للحظات ثم أعود إلي الحياة،
أين ذهبا! تبددا كما تتبدد الروح، فتذر الجسد هامدا و تسرق أسباب الحياة... بحثا عنهما،
تتبعت أثر العطر، أجتزت البوابة الخشبية الضخمة خارجة لأجدني في مكان أعرفه تماما و
إن كنت لا أشعر بانتمائي إليه... مكان تمتزج فيه الأضواء الصارخة، بالأصوات المتشنجة
الصاخبة، و الحركة المربكة... زمان شديد التسارع تتبدل لقطاته في خفة و ابتذال... و
لكنني لم أجد بدا من العودة إليه، فأودعت العاشقين ببالي زمانا يليق بهما، و عدت إلي
جنون ألفته و ألفني...