منذ أن كانت صغيرة، كان بينها و بين البحر
سرٌ ما... تذوب فيه و تتماهيإلي اللا منتهَي، و تعجب كثيرا لأمره... و لطالما
تساءلت، كيف لشيء أن يُعجز بصرك عن الإحاطة به؟!
في طريقها إليه، كان يستبقها شوق عجيب يملأ
عينيها، و شعور لم تشعره قبلا... تشرُد و تضحك و تُود البكاء... و حين رأته... لم
يسعها إلا أن تستسلم لأمواجه المتلاحقة، غير عابئة بما لديه من تحذير، أو ما لديها
من الحذر...
الجلوس علي الشاطئ لم يكن يوما متعة لها...
فليس من شأنها السكون و الاسترخاء... فهي نابضة بالحركة... لا تصدق من المشاعر سوي
ما يراودها... و لا تسعد بالبحر إلا عندما تبلل قدميها!
ربما لم تفك بعد شفرة ذاك السر القديم الذي يربط بينها و بينه، و لكنها
تعترف أيضا أن هناك أمورا كثيرة في تلك الحياة قد تستغلق علي الأفهام، دون أن
ينتقص ذلك من حقيقة وجودها...
في البحر، تتبدد مخاوفها كأن لم تكن، و
تستطيع أن تبوح بضعفها دون أدني حرج، فهو رغم ما يبدو عليه من قوة، بل قسوة
أحيانا، يتفهم ما بها من ضعف... الأمر ليس شاقا، و لا يتطلب منها أن تكون سبَّاحة
ماهرة... فقط القليل من الاستسلام!
يحملها البحر إلي حلم كبير، و كلما يبتعد
الشاطئ، تزداد حيرتها، و يزداد هو عمقا... و كلما تاهت الرمال من تحت أقدامها،
ازدادت طمعا في مكان أدني من قلبه... و بينما تزداد مخاوفه فيحذرها من التقدم خطوة
أخري، تتخطي هي كل العلامات التي مفادها السلامة، و من قال أنها تؤثر السلامة، و
لماذا ينبغي عليها أن تؤثرها، و هي التي قد آثرتها منذ الأزل...
عجيب أمرك أيها البحر؛ تعلو أمواجك فتلقي
بها نحو الشاطئ، ثم تهدأ فتسحبها إلي العمق... و رغم ذلك، تفضل هي أن تسبح في عكس
اتجاه التيار، فالأمر يستحق بعض التعب... و رغم حيرتها، فهي لا تتعجل الوصول...
فرحلتها الفريدة تأبي أن تختزل متعتها في لحظة الوصول...
في لحظة تذكرت فيها أنها لم تعد تذكر شيئا،
سوي ذلك الماء الذي يغمرها، تتسرب منه السعادة إلي روحها... بدت لها الشمس أكثر
تألقا و اقترابا، و كأنما تعلن عن بدء الزحام، و وصول شركاء... تنزوي في عناد و
إصرار أن تكمل رحلتها، ربما غدا، إلي مكانها الذي تتمني...